زياد الرحبانى.. نغمة الاختلاف وصوت الوجع الساخر فى الموسيقى والمسرح العربى

شكرا لقرائتكم خبر عن زياد الرحبانى.. نغمة الاختلاف وصوت الوجع الساخر فى الموسيقى والمسرح العربى والان مع تفاصيل الخبر

القاهرة - سامية سيد - كتب : جمال عبد الناصر

السبت، 26 يوليو 2025 12:27 م

حضرت أمس في مسرح الجمهورية العرض الغنائي الأوبريتي " الباروكة " من تراث موسيقار الشعب سيد درويش، وطوال العرض وبعد انتهائه وأنا اتحسر علي اختفاء ذلك النوع من المسرح في مسرحنا العربي، وتذكرت أعمال زياد الرحباني المسرحية الغنائية التي امتعنا بها وشاهدت بعضا عبر الإنترنت، وقلت لصديق معي : لماذا توقف زياد عن تقديم هذا النوع ؟، وكان ذلك ليلة أمس، ويأتي القدر في الصباح ليرحل من تذكرته بالأمس ويأتي الخبر صباحا كالصاعقة بالنسبة لي.

برحيل زياد الرحباني، يفقد العالم العربي أحد أبرز وجوهه الفنية وأكثرها تفردًا وتمردًا، فهو لم يكن فنانًا تقليديًا يكرر المألوف أو يرث مجد من سبقوه، بل كان مشروعًا فنيًا قائمًا بذاته، يشتبك مع الواقع بسخرية جارحة، ويغني للحياة وهو يعرّي موتها البطيء، وينسج موسيقاه من همّ الناس، لا من نوطات الصالونات.


وُلد زياد عام 1956 في بيت يفيض موسيقى وإبداعًا؛ فهو ابن فيروز وعاصي الرحباني، ورغم ذلك، سلك دربًا خاصًا به، بعيدًا عن النموذج الرحباني الكلاسيكي الذي أسّسه والده وعمه، وكان واعيًا بموهبته، متمردًا على السائد، ومصممًا على كتابة اسمه في صفحة أخرى من تاريخ الفن اللبناني.

قدّم زياد موسيقى حديثة، دمج فيها الجاز والبلوز والموسيقى الغربية بالنغمة الشرقية، ما شكل ثورة موسيقية حقيقية في عالم الأغنية اللبنانية، كما قدم أغانٍ مثل "بما إنو"، "شو بخاف"، "أنا مش كافر"، و"هيدي مش أغنية"، كانت مرايا لحالة وجدانية غاضبة، حزينة، لكنها شديدة الصدق، وحين كتب لفيروز، لم تكن "كيفك إنت" مجرد عودة للأم إلى الغناء، بل كانت صوت زياد يخرج من حنجرة فيروز، بجمل موسيقية مشبعة بالشجن، ونصوص تلامس التفاصيل اليومية بكثافة شعرية نادرة.

لكن مجد زياد لم يكن في الموسيقى فقط، بل في المسرح أيضًا، حيث كتب وأخرج ومثل، وصنع لنفسه مكانة استثنائية في تاريخ المسرح الغنائي العربي، منذ "سهرية" و"نزل السرور"، مرورًا بـ"بالنسبة لبكرا شو؟" و"فيلم أميركي طويل"، وصولًا إلى "بخصوص الكرامة والشعب العنيد"، قدم زياد أعمالًا مسرحية تُجسد الواقع اللبناني الممزق، بلغة يومية، وسخرية لاذعة، وأداء يجمع بين البساطة والعمق.


مسرح زياد ليس فقط فنًا، بل تحليل سياسي واجتماعي، ولم يكتب شعارات، بل مواقف، ولم يصف الواقع من بعيد، بل غاص فيه حتى الأعماق، ليخرج لنا نصوصًا تعري السلطة، وتكشف زيف الخطاب السياسي، وترصد مفارقات الحرب والطائفية والانقسام والاغتراب النفسي والاجتماعي.

لم يكن زياد فنانًا من دون موقف، بل كان يساريًا، شيوعيًا، مشاكسًا، يقول رأيه بحدة ووضوح، ويوجه سهام نقده إلى الجميع، من دون أن يُخضع نفسه لأي وصاية فكرية أو حزبية. وكان هذا التوجه حاضرًا في كل ما كتب ولحّن، فأصبح صوته هو صوت الفقراء، المهمشين، والناقمين، لكنه لم يُسقِط الأمل يومًا، بل أخفاه في ثنايا اللحن والكلمة.
زياد الرحباني لم يكن حالة فنية عابرة، بل هو جزء من ذاكرة اللبنانيين والعرب. هو صاحب مشروع فني حقيقي، يتكئ على الثقافة والفكر، ويخاطب الإنسان في أكثر لحظاته هشاشة واحتياجًا للصدق، وقد أثّر في أجيال من الفنانين الشباب الذين وجدوا في تجربته مساحة للتمرد، ولإعادة التفكير في حدود الأغنية والمسرح.

لم يكن المسرح عند زياد الرحباني مجرد وسيلة ترفيه، بل كان منصة للمواجهة، ومختبرًا اجتماعيًا وسياسيًا يسائل الواقع اللبناني والعربي بلغة لاذعة، ذكية، وموسيقية في آنٍ واحد، وقد بدأ رحلته المسرحية بمسرحية "المحطة"، التي كانت بمثابة الانطلاقة الأولى، قبل أن تتوالى أعماله المسرحية التي شكّلت حجر أساس في تاريخ المسرح الغنائي العربي.

في عام 1973، قدّم مسرحيته اللافتة "سهرية"، حيث التقى فيها الغناء بالعبث، وظهرت فيها بواكير أسلوبه في السخرية الاجتماعية، ثم جاءت "نزل السرور" (1974) لتؤكد أن زياد لا يقدم عروضًا للضحك، بل لخلخلة الطمأنينة الزائفة التي يعيشها المجتمع.

أما مسرحيته الأيقونية "بالنسبة لبكرا شو؟" (1978)، فشكّلت ذروة في التعبير عن الواقع اللبناني المتأزم، وهي من أكثر أعماله شهرة وانتشارًا، بما تحمله من عمق نقدي ولغة تحاكي نبض الناس.

وفي "فيلم أميركي طويل" (1980)، قدّم نقدًا لاذعًا للواقع العربي من زاوية الوعي الفردي والجمعي، مستخدمًا أدوات الكوميديا السوداء والموسيقى الحية، وتبعتها "شي فاشل" (1983)، التي واصلت خطاب التفكيك الاجتماعي والسياسي بلغة أكثر تجريبًا.

بعد سنوات من الصمت، عاد زياد في التسعينيات بمسرحية "بخصوص الكرامة والشعب العنيد" (1993)، التي كانت صرخة سياسية وجمالية ضد الانحدار العام، ثم قدّم تتمتها في "لولا فسحة الأمل" (1994)، و"الفصل الآخر" الذي يُعد الجزء الثالث والأخير من هذه الثلاثية المسرحية-السياسية.

هذه المسرحيات ليست مجرد نصوص للعرض، بل أرشيف حي للوجع اللبناني، مسجّل على الخشبة، بالأغنية، وبنص حواري لم يكن له مثيل في المسرح العربي. فقد استطاع زياد أن يحوّل المسرح الغنائي من فضاء احتفالي إلى أداة للمقاومة والتفكير والسخرية من كل شيء.

اليوم، ونحن نودع زياد الرحباني، لا نودّع فنانًا فقط، بل نودع حقبة كاملة من الصدق الفني النادر، ونودع صوتًا كان يقول ما لا يُقال، ويضحك وهو ينزف، ويغني وهو يحترق.، لكن زياد، ككل الكبار، لا يموت... بل يتحول إلى مرجعية، إلى لحنٍ مقيم في الذاكرة، إلى جملة مسرحية ما زالت تُقال، وإلى ضحكة مبطنة بالحزن، نحتاجها كي نكمل الطريق.

 

 

 

يمكنكم متابعة أخبار مصر و العالم من موقعنا عبر