اليابان | من قلب الدمار: صحفية يابانية ترصد الواقع المأسوي للحرب في أوكرانيا

بين أصوات القذائف ودخان الدمار، هناك من يخاطر بحياته لنقل الحقيقة من قلب الصراعات. تاماموتو إيكو، الصحفية اليابانية التي تحدت كل المخاطر لتكون شاهدة على أهوال الحرب وآلام الإنسان. منذ أكثر من ألف يوم، وهي تتنقل في ساحات المعارك في أوكرانيا، تقدم للعالم روايات منسية وقصصًا تغيب عن العناوين الكبرى. ما الذي يدفعها لمواجهة الخطر في أماكن لا يعود منها الكثيرون؟ وكيف تنجح في توثيق اللحظات الأكثر إنسانية وسط فوضى الحرب؟ في هذا الحوار الخاص، نكشف عن أسرار رحلتها، رؤيتها الفريدة، وشجاعتها التي جعلتها صوتًا لا يمكن تجاهله في عالم الصحافة.

الانطباع الأول عن تاماموتو إيكو هو أنها امرأة صغيرة الحجم وذات طابع لطيف، تحمل في ملامحها بساطة تشد الانتباه. ومع ذلك، فإن نشأتها في أوساكا تضيف بُعدًا مميزًا لشخصيتها، حيث يبدو حسها الفكاهي حاضرًا في حديثها، حتى عندما يكون الموضوع جادًا مثل الحرب. فهي تمتلك قدرة فريدة على إضفاء روح من الدعابة تجعل الجمهور يبتسم حتى وسط أجواء المحاضرات الثقيلة.

لكن خلف هذا الانطباع اللطيف، تكمن شخصية جريئة لا يمكن التنبؤ بها بسهولة. فمن الصعب تخيلها ملفوفة بسترة واقية من الرصاص تزن 10 كيلوغرامات، وخوذة تحمي رأسها، مع كاميرا مُثبتة في يدها، وهي تشق طريقها بصعوبة عبر مناطق الحرب النشطة. إلا أن هذا بالضبط ما تفعله، إذ تتحدى المخاطر لتوثيق الحقيقة كما هي، وتنقل للعالم مشاهد حقيقية من ساحات الصراع، مُظهرة إصرارًا وشجاعة يُخفيهما مظهرها البسيط.


تاماموتو إيكو أثناء العمل في ميكولايف بأوكرانيا في عام 2022. © آسيا برس إنترناشيونال)

بدأت تاماموتو إيكو هذا المسار الاستثنائي في تسعينيات القرن العشرين بعد أن قررت ترك وظيفتها في شركة تصميم. كان دافعها الأول نابعًا من صدمتها العميقة بعد مشاهدتها تقريرًا إخباريًا في عام 1994 عن رجل أضرم النار في نفسه في ألمانيا احتجاجًا على قمع تركيا للأكراد، الذين يُعدّون أكبر مجموعة عديمة الجنسية في العالم. تقول تاماموتو: ”لقد دفعتني صدمتي إلى محاولة فهم السبب الذي قد يدفع أي شخص للذهاب إلى هذا الحد من الاحتجاج. لم أشعر بأي تردد في اتخاذ هذه الخطوة التالية“.

كان لقرارها جذور أعمق في تاريخ عائلتها؛ إذ تأثرت بوالدها، الذي نجا من القنبلة الذرية التي أُلقيت على هيروشيما وهو في سن الخامسة. تقول: ”قرأت مختارات ساهم والدي في تأليفها عندما كان طفلاً، واستمعت إلى رواياته عن تجاربه. منذ طفولتي، كنت أشعر بعمق كيف يتسلل بؤس الحرب إلى الجسد والروح“.

عندما بدأت رحلتها المهنية، أبدى والدها تفهمًا لقرارها الجريء ورافقها دون معارضة رغم خطورة العمل الذي اختارته. في البداية، عملت في وظائف مؤقتة، مثل الاستقبال في الشركات، لتوفير المال اللازم لرحلاتها الميدانية. ومن خلال العمل مع صحافيين متمرسين، تعلمت أساسيات التغطية الإعلامية وبدأت تبني تجربتها الخاصة.

في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وسّعت تاماموتو نطاق تغطيتها ليشمل مناطق النزاع في الشرق الأوسط، مثل سوريا والعراق، حيث وثّقت الحروب والصراعات التي تشمل جماعات متطرفة مثل تنظيم داعش. كان عملها محفوفًا بالمخاطر، لكنها استمرت بشجاعة في تقديم شهاداتها البصرية من قلب الأحداث، مدفوعةً برغبتها العميقة في نقل الحقيقة.

ضحايا أبرياء

أمضت تاماموتو إيكو عدة أشهر من كل عام في أوكرانيا منذ بدء الغزو الروسي في عام 2022، مركزةً أنشطتها في المناطق الشرقية والجنوبية القريبة من الحدود الروسية. في بعض الأحيان، تصل إلى خطوط المواجهة، حيث تتطاير القذائف فوق الرؤوس، لكنها توجه اهتمامها الأساسي نحو أولئك الذين تُركوا في خضم الحرب: كبار السن، النساء، والأطفال الذين يعانون من ويلات النزاع المستمر.

من خلال تجربتها، أصبحت شاهدة على الأثر المدمر للحرب على المدنيين، ورصدت العديد من الضحايا الأبرياء الذين وجدوا أنفسهم محاصرين في منطقة الصراع. تقول تاماموتو إن ما يدفعها للاستمرار هو التزامها بإظهار معاناة هؤلاء الناس للعالم، لتكون صوتًا لمن لا صوت لهم في ظل أصوات القذائف والانفجارات.

في فبراير/ شباط 2024، غطّت تاماموتو أحد أكثر تقاريرها إيلامًا من موقع هجوم صاروخي في بلدة سيليدوف بمنطقة دونيتسك، حيث تجسدت مأساة الحرب بأبشع صورها. كاتيا غوغوفا، التي كانت حاملًا في شهرها الثامن، دخلت مستشفى محليًا بعد شعورها بتوعك. رافقها زوجها، ولكن في تلك الليلة تلقيا مكالمة من والدتها، تخبرهما بأن حيّهما تعرض لقصف صاروخي روسي. قرر زوج كاتيا العودة للاطمئنان على منزلهما.

بعد نحو ساعة، تعرض المستشفى نفسه لقصف صاروخي في هجوم بدا وكأنه خطة من مرحلتين، استهدفت فيها القوات الروسية أولئك الذين ينقلون الجرحى لتلقي الرعاية الطبية. كاتيا وطفلها الذي لم يولد بعد كانا من بين الضحايا الأبرياء الذين سقطوا في هذه المأساة.

عندما زارت تاماموتو موقع الحادث بعد أيام قليلة، أجرت مقابلة مع زوج كاتيا الأرمل الذي كان غارقًا في الحزن والشعور بالذنب. قال بحسرة: ”كانت أمًا حاملًا في سن التاسعة والثلاثين من عمرها، وكنا في قمة السعادة لأنها تمكنت أخيرًا من الحمل. والآن، أعيش مع شعور مؤلم بالذنب لأنني تركتها في المستشفى ولم أستطع مساعدتها في النهاية“.

تمثل قصة كاتيا واحدة من العديد من المآسي الإنسانية التي وثقتها تاماموتو، مسلطةً الضوء على المعاناة التي تتحملها العائلات المدنية وسط الصراع، ومحاولة إيصال صوت الضحايا للعالم.


أولغا تحمل صورة لابنتها الراحلة كاتيا. وتقول إنها كانت متحمسة لرؤية الحفيدة التي كانت كاتيا على وشك إنجابها. (© تاماموتو إيكو)


انتشال جثة طفل صغير من بين أنقاض مجمع سكني في أوديسا دمره هجوم بطائرات بدون طيار. (© تاماموتو إيكو)

الخطر الخفي

إن تقديم التقارير من مناطق الحرب ليس مجرد عمل صحفي، بل هو اختبار يومي للشجاعة والصمود أمام خطر دائم.

تروي تاماموتو واحدة من تجاربها المؤلمة في أوريخيف، بمنطقة زابوريزهيا جنوب أوكرانيا. أثناء دخولها المدينة مع فريقها الصحفي، دوّت صافرة قذيفة روسية وهي تمر فوق رؤوسهم، تلتها لحظات مرعبة عندما انفجرت القذيفة على مقربة منهم.

هذه الحادثة كانت تذكيرًا صارخًا لتماموتو بالمخاطر المحدقة التي تواجه الصحفيين في مناطق الصراع، لكنها لم تمنعها من مواصلة مهمتها في توثيق الحقيقة. بدلاً من التراجع، أصبحت هذه التجارب محفزًا أكبر لتسليط الضوء على المعاناة الإنسانية، وإيصال أصوات الضحايا إلى العالم.


سترة تاماموتو الواقية من الرصاص وخوذتها. (© تاماموتو إيكو)

لقد دفعت المخاطر المرتبطة بتغطية الحروب العديد من الصحفيين اليابانيين الآخرين إلى فقدان حياتهم أثناء أداء واجبهم في مناطق الصراع، مما يجعل تجربة تاماموتو أكثر إثارة للإعجاب وشجاعة. ومع ذلك، فإنها تدحض الاعتقاد الخاطئ بأنها متهورة أو لا تقدّر حياتها قائلة: ”أنا في الواقع جبانة بعض الشيء“.

بعد أن تلقت تدريبًا عمليًا من محترفين متخصصين في تغطية مناطق الحرب، أصبحت قادرة على تقييم مستويات الخطر بدقة. وغالبًا ما تتخذ قرارات بإلغاء التصوير إذا شعرت أن المخاطر كبيرة جدًا. كما تحرص على اتخاذ احتياطات صارمة لضمان سلامة المترجمين والسائقين المحليين الذين يرافقون فريقها. وتضيف: ”أتجنب المشي في المروج والحقول المفتوحة بسبب خطر الألغام الأرضية“.

يمثل هذا الصراع تحديات فريدة، من أبرزها الهجمات الروسية عن بعد باستخدام الطائرات بدون طيار. وتُستخدم طائرات ”شاهد“، الإيرانية الصنع والتي تُطلق عليها تسمية ”كاميكازي“، في هجمات انتحارية. تتميز هذه الطائرات بطول يتراوح بين مترين وثلاثة أمتار، وتعمل في تشكيلات لتحديد الأهداف قبل ضربها والانفجار. يرافقها في المقدمة طائرات صغيرة أخرى تُستخدم لإلقاء القنابل.

تصف تاماموتو أحد أكثر لحظاتها المرعبة عندما تعرضت لهجوم بطائرة بدون طيار قائلة: ”كان هناك صوت عالٍ وحاد، ولكن عندما نظرت إلى الأعلى، لم أتمكن من رؤية أي شيء. على الفور، أخلينا مبنى قريبًا برفقة جندي أوكراني، الذي قال لي: “عندما تسمعين صوت الطائرة بدون طيار، عليك أن تدركي أنك لن تعرفي متى ستهاجم، المشغلون يراقبونك عن بُعد، وقد يقررون استهدافك”.

تضيف: ”إنه نوع مختلف تمامًا من الخوف. في القصف التقليدي، تعرف متى يبدأ الهجوم ومتى ينتهي. أما مع الطائرات بدون طيار، فإنك تعيش تحت مراقبة مستمرة وغير مرئية من السماء، وهذا الخوف غير المتوقع يجعل الأمر أكثر رعبًا.“


طائرة بدون طيار من طراز “شاهد” إيرانية الصنع استخدمتها روسيا لمهاجمة العاصمة الأوكرانية كييف. (© غيتي إيماجز)

التهديد النووي

أعظم مخاوف تاماموتو تكمن في احتمال استخدام الأسلحة النووية، وهو كابوس لم يتحقق منذ إلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناجازاكي. ومع ذلك، فإن تهديد هذه الأسلحة يلوح في الأفق مع احتلال روسيا لمحطة زابوريزهيا للطاقة النووية في جنوب أوكرانيا، والتي تخضع لمراقبة من فرق الوكالة الدولية للطاقة الذرية. كما أن إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن عقيدة جديدة تحدد استخدام روسيا للأسلحة النووية زاد من قلق المجتمع الدولي بشأن خطر اندلاع حرب نووية.

تدرك تاماموتو عمق هذا الخطر على المستوى الشخصي، متأثرة بقصص والدها الذي نجا من القنبلة الذرية. تتحدث بحزن عن معاناته كطفل صغير، حين أمضى وقتًا طويلًا طريح الفراش يكافح الموت. وحتى الآن، فإن البرامج التلفزيونية التي تتناول قصف هيروشيما تتركه في حالة من البكاء العميق. تقول تاماموتو: ”الأسلحة النووية لا تقتل الناس فور استخدامها فقط، بل إنها تواصل غزو أجساد الناجين، مسببة أمراض الإشعاع وسرطان الدم، وتترك صدمة نفسية عميقة لا تمحى. لا ينبغي لنا قبول فكرة امتلاك الحكومات لهذه الأسلحة أو محطات الطاقة النووية كأوراق رابحة“.

على الرغم من إدراكها للمخاطر الهائلة، فإن شغفها بالعمل الصحفي في مناطق النزاع ينبع من إيمانها العميق بأهمية كشف الحقيقة. تقول: ”مهما كان البلد، غالبًا ما تُعرض الأخبار التي تخدم أهدافًا معينة. لا يمكننا أن نفهم واقع الحرب إذا لم نشاهدها بأعيننا“.

وتضيف تاماموتو: ”هناك جانب آخر لا يقل أهمية يجب أن أضعه في الاعتبار كصحفية. فعلى الرغم من أنني رأيت العديد من الأحباء يبكون على قبور الجنود الأوكرانيين الذين قُتلوا في المعارك، فإن هناك أحباءً مفجوعين في روسيا أيضًا. لا يمكنني نقل صورة الحرب فقط، بل عليّ أن أُظهر ما تأخذه الحرب من الجميع، ومن هم ضحاياها الحقيقيون، بغض النظر عن انتماءاتهم“.

بهذه الكلمات، تجسد تاماموتو التزامها بإيصال معاناة البشر على كلا الجانبين، وتذكير العالم بالثمن الإنساني الفادح للحروب والصراعات.

مخاطر تلاشي الاهتمام

ومع دخولنا العام الثالث منذ غزو أوكرانيا، بدأ الاهتمام الدولي يتضاءل. ومع ذلك، تصر على أن ”الخطر يتزايد عندما يبدأ الاهتمام في التلاشي“.


تحذر تاماموتو من خطر تلاشي الاهتمام بالصراع الدائر. (© هاناي توموكو)

مع تصاعد الدعوات الدولية لوقف إطلاق النار في أوكرانيا، توضح تاماموتو أن الواقع على الأرض معقد ومليء بالتحديات. تقول: ”عندما أجري مقابلات مع الجنود، يخبرونني: إذا توقفت المعارك، فإن الموت سيتوقف. لكن أولئك الذين يعيشون في الأراضي المحتلة سيواصلون المعاناة، وسيدفع أطفالنا أو أحفادنا الثمن لاستعادة أوطانهم المفقودة.“ يعكس هذا الشعور مأزقًا مؤلمًا يعيش فيه الجنود، الذين يواصلون القتال رغم إدراكهم لمآسي الحرب، مدفوعين بخوفهم من ضياع مستقبل وطنهم. تضيف تاماموتو: ”الحرب بحد ذاتها خاطئة، لأنها تجلب الدمار والمذابح. ولكننا بحاجة أيضًا إلى التفكير العميق في العواقب طويلة المدى لما يأخذه الغزو“.

في سياق التطورات الأخيرة، تتحدث تاماموتو عن دخول عناصر جديدة في الصراع، مع إرسال جنود من كوريا الشمالية لدعم القوات الروسية، بالإضافة إلى توقعات بأن الولايات المتحدة قد تقلل دعمها لأوكرانيا إذا عاد دونالد ترامب إلى منصب الرئاسة لولاية ثانية. في ظل هذه التغيرات الجيوسياسية، تقول تاماموتو بحزم: ”المدنيون العاجزون هم دائمًا من يدفعون الثمن ويتقاذفهم الوضع الدولي“.

رغم كل هذا، تبقى تاماموتو مصرة على الاستمرار في عملها الصحفي. تخطط لمواصلة تركيزها على أوكرانيا، ساعيةً لنقل أصوات ومعاناة من يعيشون في ظل الحرب. تؤمن بأهمية مشاركة العالم بما تراه على الأرض، قائلة: ”الصراعات لا تُفهم بالكامل من بعيد، بل يجب أن ننقل حقيقة ما يجري بكل تفاصيلها، حتى ندرك حجم الألم الذي يعيشه الأبرياء“.

(النص الأصلي باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان الرئيسي: تاماموتو إيكو أثناء مقابلة في معرض طوكيو الذي يستضيف معرضها الفوتوغرافي، ”أوكرانيا: الناس الذين يعيشون في لهيب الحرب“. © هاناي توموكو)

كانت هذه تفاصيل خبر اليابان | من قلب الدمار: صحفية يابانية ترصد الواقع المأسوي للحرب في أوكرانيا لهذا اليوم نرجوا بأن نكون قد وفقنا بإعطائك التفاصيل والمعلومات الكاملة ولمتابعة جميع أخبارنا يمكنك الإشتراك في نظام التنبيهات او في احد أنظمتنا المختلفة لتزويدك بكل ما هو جديد.

كما تَجْدَرُ الأشاراة بأن الخبر الأصلي قد تم نشرة ومتواجد على نيبون وقد قام فريق التحرير في الخليج 365 بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر من مصدره الاساسي.

أخبار متعلقة :