بشكله الغريب ووجهه الذهبي البارز من الأعلى، لا يمكن لزائر معرض إكسبو 70 في أوساكا أن ينسى ”برج الشمس“ – العمل الذي تحدّى كل التصورات الفنية في حينه. صممه الفنان المتمرد أوكاموتو تارو، الذي رأى في الفن وسيلة لتفجير الثوابت لا تجميلها، ولخلق قيم إنسانية جديدة من قلب الدهشة والصدام. في هذه المقالة، نرافق أحد الخبراء في تتبع خطى أوكاموتو ومحيطه، لنكتشف كيف ظلت أفكاره المتحررة من القيود تُلهم حتى اليوم أجيالًا من الفنانين والمفكرين.
دعوة لتغيير الواقع
اشتهر الفنان ”أوكاموتو تارو“ (1911-1996) بـ ”تاور أوف زا صن“ أو ”برج الشمس“، وهو مبنى يبلغ ارتفاعه 70 مترًا في قلب موقع معرض أوساكا عام 1970. وقد كان البرج، الذي يجمع بين النحت والبناء، مع كامل مساحته الداخلية، بمثابة كيان غامض تقريبًا، يلوح في أفق المعرض كشخصية مقنعة عظيمة أو هيكل مقدس.
برج الشمس، أيقونه معرض أوساكا الدولي 1970. (© جيجي برس)
وقد جسّد الجزء الداخلي من البرج تطور الحياة منذ العصور القديمة بطرقٍ تقاوم التصنيف الضيق. وبعد جولات ترميم متعددة، أصبح مفتوحًا اليوم للجمهور. ولا يزال البرج، الذي يُعترف به على نطاق واسع حتى يومنا هذا كرمزٍ للعصر الذي أقيم فيه معرض إكسبو عام 1970، يتمتع بأهميته لأسبابٍ متعددة. وقد أصدرت حكومة محافظة أوساكا، التي تُدير البرج، تقييمًا شاملًا للهيكل في نوفمبر 2024، على أمل ضمان إدراجه ضمن قائمة التراث الثقافي المهم.
وجه الشمس العملاق، المُثبّت على واجهة برج الشمس. ويظهر ”أوكاموتو تارو“ وهو يعمل في المنتصف. (© جيجي برس)
وهناك أيضًا ”ميث أوف تومورو“ أو ”أسطورة الغد“، وهو عمل أسطوري آخر لأوكاموتو، رُسم عام 1967 لردهة أحد الفنادق في المكسيك، لكنه فُقد بعد إفلاس الفندق. وأُعيد اكتشافه عام 2003، وعُرض في محطة شيبويا بطوكيو عام 2008. ويبلغ ارتفاعه حوالي 5,5 متر وطوله 30 مترًا، ويتجاوز العمل تصنيفه كلوحة فنية بفضل حجمه الهائل والضخم.
يُعرض العمل الفني ”أسطورة الغد“ في الممر الذي يربط بين خطي جي آر و كييوإنوكاشيرا في محطة شيبويا. (© جيجي برس)
و ”أسطورة الغد“ عملٌ غامض كذلك. حيث يتناول مواضيع خطيرة، إذ يُصور قارب صيد تونة ياباني تلوث بالغبار النووي من تجربة سلاح نووي حراري في جزيرة ”بيكيني“ المرجانية عام 1954، محاطًا بأشكال هيكلية ترمز إلى الطاقات البشرية الخفية والقوية. إلا أن أسلوبه يتميز بخفة الظل التي تُشبه أعمال المانغا، ويبدو المنظور العام للعمل وكأنه يتجاوز الواقع ببراعة.
ولم يكن أوكاموتو تارو مرتبطًا بمكان أو زمان محددين. حيث إنه يتجاوز اللحظة الراهنة، ويدعونا للانضمام إليه.
وبعد معرض أوساكا عام 1970، ظهر في الإعلانات التلفزيونية وفي برامج المنوعات، وظهر في المجلات الإخبارية وغيرها من وسائل الإعلام، حيث كان يعمل باستمرار على إعادة صياغة القيم الموجودة وتكرار شعاره الشعبي: ”الفن انفجار“.
وغالبًا ما فُسرت هذه الكلمات على أنها تشير إلى فنٍّ بسيط يُمزق العالم بصدقٍ عميق، لكنها في الواقع كانت دعوةً أوسع نطاقًا للنضال، تعكس إيمان أوكاموتو بأن الفن وحده قادر على تغيير الواقع. وعلى الرغم من رحيله عام 1996 عن عمر يناهز 84 عامًا، لا يزال أوكاموتو يجذب حشودًا غفيرة من المعجبين. ولكن لماذا؟
باريس والسمات الفنية المتضادة
وُلِد أوكاموتو تارو عام 1911 لأبيه رسام الكاريكاتير الناجح ”أوكاموتو إيبي“، وأمه الشاعرة والكاتبة ”أوكاموتو كانوكو“. وقد أطلق الروائي والحائز على جائزة نوبل، ”كاواباتا ياسوناري“، على هذه العائلة الفنية الفريدة لقب ”العائلة المقدسة“.
وفي المدرسة، تنازع تارو مع معلميه بنضج لافت، مما تسبب في خلافات أجبرته على تغيير المدرسة عدة مرات. وبعد تخرجه من مدرسة ”كييو فوتسوبو“ عام 1929، التحق بمدرسة طوكيو للفنون الجميلة (جامعة طوكيو للفنون حاليًا). لكنه ترك المدرسة في وقت لاحق من ذلك العام، بعد أن كلفت صحيفة أساهي شيمبون والده بتغطية معاهدة لندن البحرية لعام 1930. وانطلقت عائلة أوكاموتو من مدينة كوبي معًا، ولكن بينما واصل والداه رحلتهما إلى لندن، وصل تارو إلى باريس، مصممًا على العيش كأهل المدينة لتحقيق أهدافه الفنية.
وبدلاً من الانضمام إلى مجتمع الفنانين اليابانيين المغتربين في باريس، درس أوكاموتو في مدرسة ثانوية بضواحي باريس، متعلمًا اللغة والثقافة وأسلوب الحياة الفرنسي. وتردد على المعارض الفنية المحلية، ثم درس الفلسفة والفن في جامعة السوربون.
وخلال فترة إقامته في فرنسا، اختلط أوكاموتو بفنانين طليعيين أمثال بيكاسو، وموندريان، وكاندنسكي، وإرنست، وجياكوميتي، ومان راي، بالإضافة إلى مفكرين مثل أندريه بريتون، الأب الروحي للسريالية، وجورج باتاي، الذي تأمل الوجود الإنساني من منظور الموت والعنف والإثارة. وشهد أوكاموتو أحدث صيحات الفن التجريدي والسريالي، وهما مفهومان شكّلا جوهر فن القرن العشرين، في بيئة احتدم فيها الجدل حول معنى الحياة الحقيقي، مما أثر بعمق على مسار الفلسفة الفرنسية الحديثة لاحقًا.
وكفنان، سعى أوكاموتو جاهدًا لإنتاج لوحات تتعايش فيها العناصر الواقعية والمجردة في حالة من التناقض. وبعد الحرب العالمية الثانية، أصبح من دعاة ”الاستقطابية“، وهي حركة فنية سعت إلى التعبير عن العقلانية واللاعقلانية في تضاد ضمن لوحة فنية واحدة. والعديد من أعماله من تلك الفترة تُبرز التضاد في مواجهة مباشرة، متحديةً بذلك التحليل العقلاني، تمامًا كما يفعل البشر.
علم الإثنوغرافيا كأداة لفهم الوجود الإنساني
أثناء زيارته لمتحف الإنسان، الذي افتُتح في الموقع السابق لمعرض باريس العالمي لعام 1937، تأثر أوكاموتو، البالغ آنذاك من العمر 26 عامًا، تأثرًا بالغًا بالأقنعة والكيانات المعروضة، التي كانت تحمل إحساسًا حيويًا بالحضور متجذرًا في أساسيات الحياة والمعتقدات البشرية. حيث بدأ الدراسة على يد عالم الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) مارسيل موس في جامعة السوربون لتعميق فهمه للإثنوغرافيا (وصف الشعوب).
وبعد عقود، في معرض أوساكا عام 1970، أنشأ أوكاموتو واستخدم مساحة عرض تحت الأرض أسفل برج الشمس لعرض عمله ˮشمس تحت الأرض“، مُحاطًا بمجموعة واسعة من التماثيل والأقنعة التي جمعها علماء من جميع أنحاء العالم تحت إشرافه. ونُقلت هذه التماثيل لاحقًا إلى المتحف الوطني للإثنولوجيا (علم الأعراق)، الذي أُنشئ بعد سبع سنوات من المعرض.
أوكاموتو تارو في 4 سبتمبر/ أيلول 1969، محاطًا بالأقنعة وغيرها من الفنون الشعبية التي تم جمعها لعرضها في معرض أوساكا عام 1970. (© كيودو)
أُعيد فتح الجزء الداخلي من برج الشمس، أيقونة معرض إكسبو 70، للجمهور منذ عام 2018. كما يُعرض نموذج مُعاد إنشاؤه للعمل الفني Underground Sun ˮأندر غراوند صن“ ، والذي فُقد بعد فعاليات المعرض. (© جيجي برس)
وبعد رحيله إلى باريس في سن التاسعة عشرة، قام أوكاموتو بزيارات قصيرة إلى وطنه من حين لآخر وتم تجنيده في الخدمة العسكرية أثناء الحرب، لكنه لم يستقر بشكل دائم في اليابان حتى عام 1946، عندما كان في الخامسة والثلاثين من عمره. وقد شكلت تجربته غير التقليدية خارج اليابان – حيث طفولة في بيئة منزلية احتفلت بالتميز الفني والسنوات التي عاشها وسط المشهد الفني المزدهر في باريس في الثلاثينيات - على مسار فريد من نوعه بعد الحرب لتجاوز الواقع في اليابان.
معنى الطليعة في اليابان
أدى سعي أوكاموتو الفلسفي والإثنوغرافي وراء معنى الوجود الإنساني في النهاية إلى استنتاجه أنه سيظل غريبًا في أوروبا، ولن يُنتج فنًا ذا قيمة إلا إذا تقبّل اليابان، موطنه، كساحةٍ لأفكاره. وفي عام 1940، ومع اقتراب الحرب من باريس، صعد على متن سفينة متجهة إلى اليابان للمرة الأخيرة.
وبعد وصوله إلى اليابان، حاز أوكاموتو على جوائز عن أعماله التي أنتجها في أوروبا، بعضها عُرض في معرض ˮنيكا“ عام 1941، وبعضها الآخر عُرض بشكل مستقل. ولكن في العام التالي، وفي سن الحادية والثلاثين، جُنّد في الجيش وأُرسل إلى الصين، حيث أمضى أكثر من أربع سنوات في ساحة المعركة.
وعندما عاد أوكاموتو أخيرًا إلى اليابان في يونيو/ حزيران 1946، علم أن جميع أعماله الفنية حتى ذلك الحين قد دُمرت، إلى جانب منزل عائلته، جراء قصف طوكيو بالقنابل الحارقة. وهكذا، أصبح حرًا في إعادة بناء نفسه كفنان ياباني متحرر بشدة، وبدأ يرسم مسارًا لما بعد الحرب، سعى من خلاله إلى ربط الفن بالمجتمع والحياة في خضم التناقضات المُعقدة التي تواجهها اليابان الحديثة.
وتحدى أوكاموتو المؤسسة الفنية اليابانية المُحافظة. وأسس حركة فنية طليعية تُسمى ˮيورو نو كاي“ (جمعية الليل) مع الباحث الأدبي ˮهانادا كيوتيرو“ وآخرين عام 1948. إلا أنه في نهاية المطاف، حوّل أوكاموتو تركيزه من البحث عن فن جديد إلى تطوير فن جديد داخل المجتمع. وفي عام 1954، أسس معهد ˮغينداي جيجوتسو كينكيوجو“ (معهد البحوث الجمالية) في منزله ومرسمه (الذي يُعرف الآن بمتحف تارو أوكاموتو التذكاري)، داعيًا الفنانين والمصممين والمهندسين المعماريين وغيرهم هناك للتعاون.
وفي العام نفسه، نشر كتاب ˮكونيتشي نو جيجوتسو“ (الفن اليوم)، الذي أكد فيه على ضرورة أن يبتكر الفنانون قيمًا جديدة تُناسب الأشخاص الذين يواجهون العديد من قضايا المجتمع الحديث، بما في ذلك التلوث، والحرب الباردة، وازدراء الإنسانية المصاحب للنمو الاقتصادي. ووسّع نطاق أنشطته لتشمل الفن العام، والتصميم، والعمارة، والسينما، والأداء، والنقد، لينتهي به الأمر إلى وصف مهنته ببساطة بأنها ˮإنسانية“.
تقاليد جديدة تربط بين الإثنولوجيا والفن
كان السعي وراء التقاليد اليابانية دافعًا قويًا لأوكاموتو في فترة ما بعد الحرب. ففي عمله ˮمقال عن خزف حقبة جومون: حوار ذو بُعد رابع“، الصادر عام 1952، أعاد النظر في خزف هذه الحقبة (حوالي 10,000-300 عام قبل الميلاد) المكتشف في جميع أنحاء الأرخبيل الياباني، مدعيًا أنه يتمتع بجمال لا مثيل له في أي مكان آخر في العالم.
وقد كانت الروايات التقليدية للفن الياباني ترى الجمال في العناصر التي جاءت مع البوذية، مثل فلسفة ˮوابي سابي“ والتركيز على التناغم، أو الجماليات الغربية الحديثة. لكن أوكاموتو كان يعتقد أن الفن الياباني قائم على جمال حقبة ˮجومون“ الديناميكي، الذي قضى على التوازن العادي والمألوف بشكل لامنطقي رباعي الأبعاد. لقد كان هذا الأمر اكتشافًا مذهلًا من الماضي السحيق، أعاد تعريف القيم التقليدية، تمامًا كما فعل فن باريس قبل الحرب.
لقد كان أوكاموتو يؤمن بأن نزعات حقبة جومون، فترة ما قبل التاريخ في اليابان، لا تزال قائمة في مناطق يابانية مثل توهوكو وهوكايدو وأوكيناوا. ومتسلحًا بمعرفته في علم الأعراق، جاب البلاد لدراسة العادات الشعبية وتصويرها وكتابتها من منظوره الفني. ولسنوات عديدة، واصل نشر نتائجه لمشاركة هذه ˮالتقاليد الجديدة“ مع المجتمع الأوسع. وكان يؤمن بأن قوة الإبداع حاضرة في كل مكان في حياتنا: ويمكن لأي شخص أن يعيش حياة أكثر إشباعًا من خلال تبني منظور الفنان أو سلوكه في روتينه اليومي، والعزم على التعبير عن نفسه ودعم قيمه الشخصية.
ˮالفن انفجار“ و”عيون تحلق في الفضاء“
هذا هو النهج الفكري الذي قاد أوكاموتو إلى إبداع ˮبرج الشمس“ وˮأسطورة الغد“. ففي وصفه لجوهر الفن، استخدم عبارة ˮعيون تحلق في الفضاء“ - وباختصار، منظور يتجاوز حدود الواقع البشري، كما لو كان يحلق في الفضاء.
ويعمل الفنانون مع ذلك ˮالكيان الآخر“، سواءً كان لوحةً أو قماشًا، أو حجرًا، أو طينًا. ولكن مع انغماسهم في الإبداع، يتحدون معه بلا عقل. وهذا هو المعنى الحقيقي لعبارة ˮالفن انفجار!“
ولكن مع اكتمال العمل، يعود ليصبح بشكل عقلاني ˮكيانًا آخر“ من جديد. ومن خلال الفن، الذي يجمع بين الذات والآخر، لدينا القدرة على تجاوز حدود الإنسان والعالم، وتحطيم تلك الأطر التقليدية، وتغيير القيم من جذورها. وهنا يتجلى السبب في الجاذبية العالمية الدائمة لفن أوكوموتو حتى بعد وفاته، وخصوصًا في عصرنا الحديث الضيق والخانق للأفكار.
برج الشمس الأيقوني (© جيجي برس)
(النص الأصلي نُشر باللغة اليابانية في 8 أبريل/ نيسان 2025، الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان الرئيسي: صورة لأوكاموتو تارو. © جيجي برس)
كانت هذه تفاصيل خبر اليابان | أوكاموتو تارو يهز الأنماط التقليدية: كيف صاغ فنان ياباني قيمًا إنسانية جديدة؟ لهذا اليوم نرجوا بأن نكون قد وفقنا بإعطائك التفاصيل والمعلومات الكاملة ولمتابعة جميع أخبارنا يمكنك الإشتراك في نظام التنبيهات او في احد أنظمتنا المختلفة لتزويدك بكل ما هو جديد.
كما تَجْدَرُ الأشاراة بأن الخبر الأصلي قد تم نشرة ومتواجد على نيبون وقد قام فريق التحرير في الخليج 365 بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر من مصدره الاساسي.
أخبار متعلقة :