بوتين بين الأسطورة والسياسة: صيف بلا عطلة في الكرملين

الرياص - اسماء السيد - في الكرملين، لا مكان لليالي الصيفية الدافئة. حتى شمس أغسطس هناك تتوقف عند أبواب القاعات الرخامية.

"الخليج 365" من موسكو: في كل عام تقريبًا، ومع اقتراب صيف موسكو من ذروته، يعود الكرملين إلى ترديد نغمة مألوفة: فلاديمير بوتين لا يأخذ إجازة. التصريح الأخير للمتحدث باسم الرئاسة، دميتري بيسكوف، ليس استثناءً. لقد أكد مجددًا أن "الرئيس لا يطلب عطلات رسمية، وأن طبيعة منصبه لا تسمح بانقطاع طويل عن العمل".

ليست هذه أول مرة يسمع فيها الروس والعالم هذا الإعلان، ولن تكون الأخيرة. لكنه، ككل الرسائل السياسية المحكمة، لا يهدف إلى إخبارنا بشيء جديد، بقدر ما يسعى إلى تكرار صورة راسخة: بوتين، الرجل الذي لا يعرف الكسل.

شهر العواصف

منذ التسعينيات، اكتسب شهر آب (أغسطس) في الوعي الروسي سمعة لا يحسد عليها. الانهيار المالي في 1998، غرق الغواصة كورسك في 2000، حرب جورجيا في 2008، كلها وقعت في أغسطس. صار الشهر موعدًا شبه محتومًا للاضطرابات.

في هذا الإطار، تأتي تصريحات بيسكوف هذا العام مع جدول مزدحم: زيارة رسمية إلى الصين في أواخر الشهر، ملفات دبلوماسية مفتوحة، وتكهنات حول قمة محتملة – وإن كانت مستبعدة – مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. أمام هذا الزحام، يصبح الحديث عن الإجازة أقرب إلى المزاح، أو ربما إلى إصرار على تأكيد أن "الرئيس على رأس عمله" مهما كان الثمن.

الأسطورة: قائد لا ينام

بوتين ليس أول زعيم يروّج لفكرة العمل بلا توقف.
ستالين كان يُصوَّر على أنه في اجتماعات لا تنتهي، وتاتشر اشتهرت بعبارتها "أربع ساعات نوم تكفي رئيسة الوزراء".

في كوريا الشمالية، وُظّفت صورة كيم جونغ إيل وكيم جونغ أون على أنهما في حالة تفقد دائم للمصانع والمزارع، بينما في الغرب، رُسمت صور لرؤساء وزراء مثل تاتشر أو قادة مثل ديغول على أنهم يعيشون وفق إيقاع الدولة لا إيقاع الحياة الشخصية.


لقّبت تاتشر بـ“المرأة الحديدية”، تجسيداً لأسلوب حكمها في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.

القاسم المشترك: صناعة صورة القائد الذي لا يملك رفاهية الانقطاع، وهي أداة سياسية فعالة لتعزيز الانضباط المزعوم، سواء كان حقيقيًا أم مُتخيَّلًا.

المفارقة السايبيرية

لكن ما يثير المفارقة أن الكرملين لا يتردد أحيانًا في استعراض ما يشبه «الإجازة»... على طريقته الخاصة. ففي صيف 2017، بثّ التلفزيون الروسي لقطات مطولة من عطلة بوتين في سيبيريا: الرئيس وهو يغوص برمحه في بحيرة جليدية، ويتسلق التلال، ويقود القوارب والمركبات، ويصطاد الأسماك.

ولعلّ هذه المشاهد السايبيرية، التي بدت كعرض جسدي للقوة، تذكّرنا بوجه آخر لإجازات بوتين قبل سنوات. فحتى ضم القرم عام 2014، كان الرئيس الروسي زائرًا متكررًا لجاره الأوكراني. من كييف إلى خاركيف، مرورًا بجبال الكاربات وزابوريجيا وميكولايف، كان يتنقّل في فضاء يراه امتدادًا طبيعيًا لـ"روسيا الجديدة" التي ظل يتحدث عنها، في مدن أصبحت الآن مسرحًا للقصف الروسي.

حين تصبح الإجازة خطرًا سياسيًا

هناك قراءة أخرى أقل رومانسية: الإجازة الطويلة ليست ترفًا مفقودًا، بل مخاطرة. في أنظمة السلطة المركّزة، الغياب قد يفتح الباب أمام تساؤلات أو توازنات جديدة. البقاء في المشهد الدائم ليس فقط انضباطًا، بل أيضًا استراتيجية بقاء.

وبالمثل، فإن العمل المتواصل قد لا يكون دليلًا على طاقة خارقة، بقدر ما هو انعكاس لحقيقة أن كل الملفات الكبرى – من الحرب في أوكرانيا إلى الاقتصاد المعاقب بالعقوبات – مرتبطة مباشرة بشخص الرئيس.

نغمة متجددة مع كل صيف

سواء أكان بوتين يقضي يومين في تايغا أو يتابع التقارير من الكرملين، فإن الرواية الرسمية تظل ثابتة: لا عطلة. إنها حكاية تُروى كل عام تقريبًا، لا لكونها خبرًا عاجلًا، بل لأنها جزء من هوية سياسية تُبنى وتُصان.

في النهاية، المسألة ليست عن عطلة فعلية، بل عن استمرار إنتاج أسطورة الرجل الذي لا يغيب. والأساطير، كما يعرف الكرملين جيدًا، لا تُستدعى مرة واحدة، بل تُروى مرارًا حتى يصدقها الجميع – أو حتى يملّوا من التشكيك فيها.

أخبار متعلقة :