في لبنان، لا حديث يعلو على حديث "سحب السلاح" هذه الأيام، حتى إنّ كلّ شيء بات "يُربَط" به بصورة أو بأخرى، فبين الزيارات المتكرّرة للمبعوث الأميركي توم براك، الذي يسجّل عليه البعض أنّه يقول الشيء ونقيضه، فيبدي ليونة مفرطة في مكان، ويتشدّد في مكانٍ آخر، يتوسّع النقاش بين القوى السياسية حول الموضوع في الداخل، فـ"حزب الله" يتمسّك بموقفه الرافض للتفريط بعناصر القوة، وخصومه يتّهمونه بـ"المقامرة" بالبلاد مرّة أخرى، وكأنّ ما سُمّيت بـ"حرب الإسناد"، وخرج منها الحزب في أضعف حالاته، لا تكفي.
مع ذلك، سُجّل "خرق نوعيّ" هذا الأسبوع في المشهد اللبناني المعقّد، عبّرت عنه بوضوح جلسة مجلس النواب الاستثنائية شكلاً ومضمونًا، وقد خرجت عن قضايا السلاح والأمن، لتطرق باب الفساد والمحسوبيّات، إذ أفضت إلى رفع الحصانة عن النائب جورج بوشكيان، وإحالة ثلاثة وزراء اتصالات سابقين إلى لجنة تحقيق نيابية، في ما اعتُبِر خطوة غير مسبوقة في تاريخ المساءلة النيابية منذ عقود، أو على الأقلّ في السنوات الأخيرة.
صحيح أنّ هناك من عدّ هذه الخطوة "شكليّة" إلى حدّ بعيد، وأقرب إلى "المسرحيّة" في بلد تختلط فيه السياسة بالقضاء، وتتداخل الحسابات الحزبية مع الحسابات الإصلاحية، من دون أن ننسى تلك الانتخابية التي بدأت تطغى على المشهد قبل نحو عام من موعد الاستحقاق المفترض، لكن ثمّة من رآها أيضًا محاولة لتقديم "عربون نيّة" في مسار مكافحة الفساد، طالما كان اللبنانيون والمجتمع الدولي ينتظرونه.
لكن، هل تكفي هذه الخطوات لتغيير قواعد اللعبة؟ وهل تعبّر فعلًا عن تحوّل حقيقي في بنية النظام السياسي اللبناني، أم أنها مجرّد "ترتيب مسرحي" في لحظة ضغط خارجي واقتصادي بالغ الحساسية؟ وهل يمكن أن تشكّل فعلاً "خطوة أولى في مسار الألف ميل"، كما عبّر بعض النواب بعيد انتهاء الجلسة؟.
من الناحية الإجرائية، لا شكّ أنّ جلسة مجلس النواب تُعَدّ خطوة استثنائيّة. فرفع الحصانة عن نائب كان وزيرًا في الحكومة السابقة، وهو جورج بوشكيان، لم يكن تفصيلاً عابرًا، خصوصًا أنّ رفع الحصانات ظلّ غالبًا من المحرّمات السياسية، التي يسهل التلويح بها إعلاميًا، ويصعب تنفيذها واقعيًا إلا في ما ندر، وما التجربة مع قضية انفجار مرفأ بيروت سوى الدليل، حيث تذرّع الكثيرون بحصاناتهم، لرفض المثول أمام قاضي التحقيق بكلّ بساطة.
ثمّ جاءت خطوة إحالة وزراء اتصالات سابقين، من بينهم شخصيات ذات أوزان سياسية وحزبية، إلى لجنة تحقيق برلمانية، في لحظة بدا فيها أن الجميع يحاول اللحاق بموجة "المحاسبة"، ولو نظريًا، أو إدخال عناصر إصلاحية في المشهد السياسي، لإعادة ترميم الثقة المفقودة بين الناس والدولة، وبين الدولة والمجتمع الدولي، ولو أنّ هناك من يعتبر أنّ لجنة التحقيق قد لا تفضي إلى ايّ نتيجة، انطلاقًا من صفتها "البرلمانية"، لا "القضائية".
وهذه الإجراءات، التي جاءت بعد أسابيع على توقيف وزير الاقتصاد السابق أمين سلام بتهم تتعلق بالهدر والتزوير، فتحت الباب على تحليلات كثيرة، مفادها أن هناك "حراكًا جديًا" بدأ يتكوّن داخل الدولة، لمحاولة استعادة هيبتها، ولتقديم نموذج جديد، ولو محدود، عن إمكانية الذهاب في اتجاه الإصلاح والمحاسبة. لكن هل يبدو مثل هذا الاستنتاج دقيقًا، أو واقعيًا بالحدّ الأدنى، حتى يُبنى عليه؟
حتى الآن، ما يمكن تأكيده هو أنّ هذا المسار، رغم كل ما قيل فيه، لا يزال محفوفًا بكثير من الشكوك. أولها، أنه لا شيء يضمن أن تصل هذه الملفات إلى خواتيمها، في نظام اعتاد أن يُجيد التملّص والمراوغة، أكثر من إحقاق العدالة. فرفع الحصانة لا يعني بالضرورة المحاكمة، ولا سيما أنّ المعنيّ الذي عرف بالأمر مسبقًا، غادر البلاد إلى غير رجعة على الأرجح، وإحالة الوزراء إلى لجان نيابية ليست سوى خطوة أولى، قد تبقى بلا أثر فعلي.
أما ثاني هذه الشكوك، فيكمن في طبيعة "الاصطفاف السياسي" خلف هذه القرارات. فمن الواضح أن معظم القوى السياسية الكبرى، ولا سيما تلك التي تملك حضورًا قويًا في المؤسسات، لم تُظهِر بعد رغبة صريحة في الذهاب نحو محاسبة شاملة تطال الجميع، لا تستثني أولئك الذين يتحصّنون بغطاء سياسي، أو مذهبي أو طائفي، علمًا أنّ هناك من لم يستبعد تطبيق قاعدة "الستة وستة مكرر" في ملاحقة بعض الشخصيات، التي يمكن أن تتحوّل إلى "كبش محرقة".
في هذا السياق، لا يمكن فصل ما حصل في الجلسة النيابية عن الزيارة البارزة التي قام بها رئيس الحكومة نواف سلام إلى العاصمة الفرنسية باريس قبل يومين، حيث التقى الرئيس إيمانويل ماكرون، وخرج من اللقاء مطمئنًا إلى "التزام فرنسا بمساعدة لبنان"، لكن بشرط أساسي كرّره الجانب الفرنسي مرارًا: لا مساعدات من دون إصلاحات. فقد بدا بوضوح أنّ "الإصلاح" ليس مجرّد شعار، بل هو شرط يتمسّك به المجتمع الدولي، من أجل تقديم يد العون للبنان.
فباريس، التي طالما حملت لواء الدعم للبنان، كانت رسالتها واضحة: لا مساعدات ستُمنَح، من دون خطوات ملموسة في ملف الإصلاح، وعلى رأسها مكافحة الفساد، حتى إنّ المؤتمر الاقتصادي لدعم لبنان الذي أعلن عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارته إلى لبنان قبل أشهر، لتهنئة الرئيس جوزاف عون بانتخابه، يبدو مؤجّلاً بانتظار إطلاق الحكومة لورشة الإصلاحات الموعودة، على الأرض، لا على الورق.
وإذا كانت الحكومة رفعت شعارات كبيرة في هذا السياق، قبل أن تنشغل بالملف الأمني، ويصبح كلّ تركيزها على "حصر السلاح بيد الدولة"، فإنّها تبدو اليوم أمام امتحان حقيقي، لتترجم العناوين التي رفعتها هي إلى خطوات عملية، خصوصًا على مستوى الملفات الكبيرة، من الكهرباء إلى المالية العامة. وهنا، تظهر الحاجة إلى رؤية متكاملة لمكافحة الفساد، لا تختصرها إجراءات جزئية أو قرارات ظرفية، بل تبدأ بإصلاح القضاء، وتحقيق استقلاليته، وتفعيل هيئات الرقابة، ومكافحة التهرّب الضريبي، وتنظيم المشتريات العامة، وإقرار قوانين عالقة منذ سنوات.
في الخلاصة، لا شكّ أنّ ما حدث هذا الأسبوع يحمل رمزية لا يمكن إنكارها، لكنه لا يكفي. فمكافحة الفساد في لبنان لا يمكن أن تكون انتقائية، بل المطلوب رؤية سياسية شاملة، وإرادة جامعة لاختراق جدار الحصانات السياسية والطائفية الذي أعاق العدالة طيلة عقود. ولعلّ اللحظة الحالية تشكّل فرصة لوضع حجر الأساس لمسار إصلاحي جدي. فهل من يجرؤ فعلاً على ذلك؟.
كانت هذه تفاصيل خبر ما بعد الحصانات والتحقيقات: هل تبدأ معركة مكافحة الفساد حقًا؟ لهذا اليوم نرجوا بأن نكون قد وفقنا بإعطائك التفاصيل والمعلومات الكاملة ولمتابعة جميع أخبارنا يمكنك الإشتراك في نظام التنبيهات او في احد أنظمتنا المختلفة لتزويدك بكل ما هو جديد.
كما تَجْدَرُ الأشاراة بأن الخبر الأصلي قد تم نشرة ومتواجد على النشرة (لبنان) وقد قام فريق التحرير في الخليج 365 بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر من مصدره الاساسي.
أخبار متعلقة :