في ظل التغيرات المتسارعة على الساحة الدولية وإعادة رسم خرائط النفوذ العالمي، تواصل بكين استثمار القمم الإقليمية وعبر الإقليمية كمنصات استراتيجية لتعزيز طموحاتها الكبرى. ومع انكفاء واشنطن على ذاتها تحت قيادة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وسياساته الفوضوية، تبدو الصين وكأنها تسير بثبات نحو ملء الفراغ وتوسيع حضورها في قلب النظام العالمي الجديد.
نعيش في زمنٍ يشهد حالةً استثنائيةً من عدم اليقين والتقلب الحاد في العلاقات الدولية. فلا يخفى على أحد الاضطرابات العالمية الناتجة عن التحول الجذري في السياسة الأمريكية في عهد الرئيس دونالد ترامب، فضلاً عن استحالة التنبؤ بتصرفات إدارته. في الوقت نفسه، ينتقل العالم نحو مرحلة يسود فيها توازن قوى متعدد الأقطاب، وتشهد العلاقات بين مختلف الأقطاب اضطرابات كثيرة. فلقد شهدنا اندلاع الحرب في أوكرانيا والشرق الأوسط، بالإضافة إلى الاشتباكات الخطيرة التي وقعت بين الجارتين النوويتين الهند وباكستان. بالنظر إلى تلك الصراعات سنجدها مترابطةٌ بشكلٍ معقد، وتشمل القوى الكبرى والناشئة بطرقٍ مختلفة. في خضم كل هذا، يبدو واضحاً أن مراكز القوى العالمية تتنافس بلا هوادة للحصول على الدعم في ظل إعادة تنظيمٍ عالميةٍ مستمرة. من خلال الدبلوماسية الإقليمية الاستراتيجية، يبذل الرئيس شي جينبينغ قصارى جهده لتحويل هذا الوضع الديناميكي لصالح الصين.
خدمات جليلة يقدمها ترامب للصين
لم تكن سياسات إدارة ترامب الثانية كارثةً كاملةً على الصين. من المؤكد أن تعريفات ترامب الجمركية تُشكل تحديًا، ولكن يُمكن مواجهته إلى حدٍ ما من خلال مزيجٍ من التعريفات الجمركية الانتقامية وفرض قيودٍ على صادرات المعادن النادرة. علاوة على ذلك، قلّلت الصين من اعتمادها على التجارة مع الولايات المتحدة، من خلال جهودها للتحول إلى اقتصاد يعتمد على الطلب المحلي من ناحية، ومن خلال تنمية التجارة مع مناطق أخرى، مثل جنوب شرق آسيا ووسطها من ناحية أخرى.
في غضون ذلك، سمحت سياسات ترامب التجارية للصين بالظهور بمظهر المدافع عن نظام التجارة الحرة العالمي، إذ تهاجم الصين أمريكا متهمة إياها بتقويض هذا النظام وحرمان الاقتصادات النامية من فرص التنمية. ولقد دأبت بكين على التودد إلى كل من العالم النامي والدول الصناعية المتضررة بشدة من رسوم ترامب الجمركية (بما في ذلك اليابان) على أمل إشراكها في ”صراع مشترك“ ضد الولايات المتحدة. كما تُعدّ جولة شي جينبينغ في أبريل/نيسان في جنوب شرق آسيا (فيتنام وكمبوديا وماليزيا) والمبادرات الدبلوماسية الإقليمية التي تمت مناقشتها جزءًا من هذا الهجوم، وكذلك جهود بكين الدؤوبة لتعزيز وتعميق الشراكات الاستراتيجية الرئيسية من خلال الاجتماعات الوزارية ”اثنين زائد اثنين“ و”ثلاثة زائد ثلاثة“.
وقد صبّت سياسات ترامب الأخرى في صالح بكين أيضًا بشكل غير مباشر. حيث أدّت التخفيضات الهائلة في برامج الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) إلى إضعاف البنية التحتية الاجتماعية في دول العالم النامي، مما خلق فراغًا في المساعدات الخارجية استغلت الصين الفرصة لملئه بهدف تعزيز نفوذها في تلك الدول. كما أن تقليص ميزانية إذاعة صوت أمريكا (Voice of America) وإذاعة آسيا الحرة (Radio Free Asia)، إلى جانب التخفيف من حدة الانتقادات الموجهة للصين على خلفية انتهاكها لحقوق الإنسان في منطقة شينجيانغ ذات الحكم الذاتي وقضايا أخرى، سهّل على بكين تعزيز ما تسميه ”قوة الخطاب“ عالميًا. حتى إذا نفذ ترامب تهديده بطرد الطلاب الصينيين من الجامعات الأمريكية، فقد ينتهي الأمر بأن تستفيد الصين من ذلك عبر الاحتفاظ بمواهبها الشابة داخل البلاد.
حكم الرجل الواحد في عهد ترامب
بالطبع، يصعب التنبؤ بسياسات إدارة ترامب. ومن بين العوامل التي تزيد من غموضها وجود انقسامات أيديولوجية بين البيت الأبيض وفريق السياسة الخارجية والأمن القومي. على سبيل المثال، اتخذ وزير الدفاع بيت هيغسيث موقفًا متشددًا للغاية تجاه الصين خلال القمة الأمنية الآسيوية لملتقى (حوار شانغريلا) لعام 2025، الذي عُقد في سنغافورة بين 30 مايو/أيار و1 يونيو/حزيران. ومع ذلك، لم يُظهر ترامب ولا نائبه جي دي فانس اهتمامًا يُذكر بمواجهة طموحات الصين الإقليمية من خلال أطر مثل الشراكة الأمنية أوكوس (AUKUS) مع أستراليا وبريطانيا، أو الحوار الأمني الرباعي (Quad) مع أستراليا والهند واليابان، أو التحالف الاستخباراتي فايف آيز (Five Eyes) مع أستراليا وبريطانيا وكندا ونيوزيلندا.
منذ تولي ترامب منصبه، تضاءل نفوذ كبار منتقدي السياسات الصينية في واشنطن أكثر فأكثر. علاوة على ذلك، بات واضحًا أن أيًا من هؤلاء المسؤولين الكبار لم يعد قادراً على الوقوف في وجه ترامب. ويعتقد بعض المراقبين أن هذا الوضع يُمثل فرصة ذهبية للصين على الصعيد الأمني.
في 12 مايو/أيار من هذا العام، أصدرت بكين ورقة بيضاء بعنوان ”الأمن القومي الصيني في العصر الجديد“، تُحدد بوضوح توجهات السياسة الأمنية في العقد المقبل. وبينما تُؤكد الوثيقة على التزام الصين بالسياسة الأساسية المتمثلة في ”الأمن الشامل“، فإنها تُطور فكرة ”الأمن المشترك“، أي التعاون الأمني مع الدول الأخرى. وفي إعلان أستانا الصادر في يونيو/حزيران الماضي خلال قمة الصين وآسيا الوسطى لعام 2025 في أستانا عاصمة كازاخستان، تعهد قادة الصين وكازاخستان وقيرغيزستان (جمهورية قيرغيزستان) وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان ببذل جهود منسقة لتعزيز الأمن في مجالات الطاقة والغذاء والتكنولوجيا الرقمية.
اهتمام الصين بمنطقة الشرق الأوسط
في خضمّ التحوّل إلى عالم متعدد الأقطاب وما يصاحب ذلك من إعادة التشكيل الجيوسياسي، يبدو أن الصين تتبنّى استراتيجية جيوسياسية إقليمية محددة بكل منطقة. وقد تجلّى ذلك بوضوح في اثنتين من القمم متعددة الأطراف عُقدتا مؤخرًا. إحداهما كانت أول مؤتمر لقادة رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، ومجلس التعاون لدول الخليج العربية (GCC)، والصين، والذي عُقد في كوالالمبور في مايو/أيار 2025 (بحضور رئيس مجلس الدولة لي تشيانغ). والأخرى كانت قمة الصين ودول آسيا الوسطى المذكورة آنفًا في أستانا عاصمة كازاخستان (بحضور الرئيس شي جينبينغ).
يُعتقد أن لهذه المبادرات الدبلوماسية هدفين رئيسيين. أولًا، تهدف إلى مواجهة مبادرة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة (FOIP) التي روّجت لها اليابان والولايات المتحدة ودول أخرى. وقد شكّل هذا الهدف بلا شكّ القوة الدافعة وراء عقد قمة رابطة الآسيان ومجلس التعاون الخليجي والصين 2025. حيث انتقدت الصين رؤية مبادرة المحيطين الهندي والهادئ الحرة التي صاغتها حكومات اليابان والولايات المتحدة وأستراليا، لكنها استجابت بشكل إيجابي لرؤية رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) الأقل تهديدًا بشأن منطقة المحيطين الهندي والهادئ (AOIP)، والتي تعطي دورًا محوريًا لمنظمة آسيان في إدارة شؤون المنطقة. على أي حال، أنشأت الصين الآن إطارًا إقليميًا متجذرًا في جنوب شرق آسيا ودول الخليج، والتي تُعتبر أيضًا محورية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة.
في هذا الإطار، تبنت الصين ورابطة دول جنوب شرق آسيا ودول الخليج مبادئ وأهدافًا للتعاون تختلف اختلافًا كبيرًا عن تلك التي تسعى إليها الولايات المتحدة وشركاؤها في مبادرة المحيطين الهندي والهادئ الحرة. على سبيل المثال، يُقلل البيان المشترك الصادر عن القمة من شأن العديد من المخاوف الأمنية الاقتصادية للعالم المتقدم - وأبرزها التكنولوجيا المتقدمة ذات الاستخدام المزدوج - ويُركز بشكل أكثر صراحةً على أمن الطاقة والغذاء.
ثانيًا، تهدف هذه المبادرات إلى مواجهة تحركات الهند، القوة المنافسة الناشئة. فعلى الرغم من تراجع حدة الاشتباكات الحدودية بين الصين والهند في السنوات الأخيرة، إلا أن العلاقات لا تزال متوترة، ويعود ذلك إلى حد كبير إلى التوترات القائمة بين الهند من ناحية، وباكستان التي تربطها علاقات وثيقة بالصين، من ناحية أخرى. ولعل أحد أسباب اختيار بكين الاجتماع مع رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) ودول الخليج من جهة، ودول آسيا الوسطى من جهة أخرى، هو أن عقد مثل هذه القمة مع قوى جنوب آسيا غير ممكن حاليًا.
في قمة مجموعة العشرين التي عُقدت في نيودلهي عام 2023، أعلن رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي والرئيس الأمريكي جو بايدن عن مبادرة الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC)، وهو طريق مقترح من الهند إلى أوروبا عبر الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وإسرائيل. كما كثفت الهند مفاوضاتها بشأن اتفاقية التجارة الحرة مع أوروبا، وزار رئيس الوزراء مودي قبرص مؤخرًا. لذا فإن اختيار الصين الاجتماع مع قمة رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) ودول مجلس التعاون الخليجي يمكن اعتباره جهدًا من بكين لمواجهة التقدم الدبلوماسي الذي أحرزته الهند على الجبهة الغربية. وهذا يكشف عن استراتيجية جيوسياسية متعددة الأوجه تركز على الهند والقوى الناشئة الأخرى بالإضافة إلى العالم الصناعي.
ذكاء الصين في التودد للدول الإسلامية
في الوقت نفسه، يبدو أن المبادرات الإقليمية التي تتبناها الصين مستوحاة من أفكار أخرى، لا سيما عند النظر إليها في سياق منظمات مثل منظمة شنغهاي للتعاون (SCO)، وآسيان زائد واحد (الصين)، وآسيان زائد ثلاثة (اليابان، الصين، وكوريا الجنوبية)، بالإضافة إلى توسّع مجموعة بريكس، التي تضم حاليًا كلاً من البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب أفريقيا، مصر، إثيوبيا، إيران، إندونيسيا، والإمارات العربية المتحدة.
دعونا أولاً نتأمل في دلالة اختيار ماليزيا كمكان لانعقاد قمة آسيان – مجلس التعاون الخليجي – الصين. كما أشار البيان المشترك الصادر عن القمة، فقد تبنت القمة وجهات نظر مجموعة من دول الخليج التي أدانت بشدة أفعال إسرائيل في غزة، رغم سعيها في الوقت ذاته للوساطة من أجل إحلال السلام في الشرق الأوسط. وبوصفها دولةً مسلمة، كانت ماليزيا دون شك الدولة الأرجح ضمن دول آسيان لدعم هذا الموقف. كما أن ماليزيا حريصة على تعزيز تعاونها مع دول الخليج لتحسين فرص انضمامها إلى مجموعة بريكس. وقد تكون الصين تسعى إلى استثمار هذه الأجواء التعاونية بين دول الخليج ودول مثل ماليزيا لتعزيز حضورها الإقليمي.
في حين تتمتع الصين بعلاقات وثيقة مع رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، إلا أن روابطها مع الشرق الأوسط بحاجة إلى تعزيز. بالنسبة لبكين، كانت قمة رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) ومجلس التعاون الخليجي والصين وسيلةً للاستفادة من علاقتها مع الرابطة للتقارب مع دول الخليج، مستفيدةً من الروابط الإقليمية بين الدول الإسلامية.
وبهذه الطريقة، تُواصل الصين تكييف استراتيجياتها الإقليمية وصقلها لتتواءم مع تقدم عملية التعددية القطبية. ومع ذلك، يبقى من غير الواضح كيف ستستقبل دول كل منطقة هذه التحركات. فباعتبارها مجرد بديل صيني للهيمنة الأمريكية، من غير المرجح أن تتحقق رؤية بكين لنظام دولي جديد.
(نُشر النص الأصلي باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان: من اليسار إلى اليمين، الرئيس الفلبيني فرديناند ماركوس الابن، ورئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم، ورئيس الوزراء الصيني لي تشيانغ، في قمة رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) ومجلس التعاون الخليجي والصين في كوالالمبور، 27 مايو/أيار 2025. © وكالة أخبار أفلو/ جيجي برس)
كانت هذه تفاصيل خبر اليابان | سياسات ترامب تجاه الصين: هل حققت هدفها المنشود أم نجحت الصين في استغلالها لصالحها؟ لهذا اليوم نرجوا بأن نكون قد وفقنا بإعطائك التفاصيل والمعلومات الكاملة ولمتابعة جميع أخبارنا يمكنك الإشتراك في نظام التنبيهات او في احد أنظمتنا المختلفة لتزويدك بكل ما هو جديد.
كما تَجْدَرُ الأشاراة بأن الخبر الأصلي قد تم نشرة ومتواجد على نيبون وقد قام فريق التحرير في الخليج 365 بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر من مصدره الاساسي.