
ثمة لحظة تتفجّر فيها الرغبة بالكتابة كما لو أنها حاجة جسدية لا تحتمل التأجيل. لحظة تشبه انفتاح نافذة في غرفة خانقة، يدخل منها هواء جديد يوقظ الروح من سباتها، ويمنحها فرصة أن تتأمل وجهها في مرآة اللغة. الكتابة ليست استعراضًا لغويًا ولا عرضًا لإبهار جمهور مجهول؛ إنها، قبل كل شيء، امتحان عميق للذات، ووسيلة لاكتشاف ما يختبئ في الزوايا المظلمة من وعينا، حيث تتكدس الأسئلة والخيبات والأحلام المؤجلة.
حين يضع المرء قلمه على الورق، فإنه يتخلى عن كثير من الأقنعة التي يلبسها في الحياة اليومية. الكلمات تتسلل إلى ما وراء الحذر الاجتماعي والتمثيل المفروض، لتصل إلى جوهره الصافي. الكتابة بهذا المعنى ليست طقسًا من طقوس التجميل، بل فعل مواجهة. مواجهة مع الذات أولًا، ثم مع العالم. لكنها مواجهة بلا سيوف ولا شعارات، مواجهة حقيقية تحدث في صمت الورقة وهدوء اللحظة، حيث يكون الكاتب عاريًا من كل تزييف، محاطًا فقط بحروفه التي تحاكمه وتمنحه في الوقت نفسه فرصة النجاة.
ما يكتبه المرء ليُرضي الآخرين يفقد حرارته سريعًا، لأنه لا يشبهه. يظل أشبه بوجهٍ مزيّنٍ بمساحيق مؤقتة، ينهار عند أول قطرة مطر. بينما الكلمات التي تنبع من الداخل، حتى لو جاءت بسيطة أو مرتجفة، فإنها تحمل صدقًا لا يمكن تزويره، وتظل قادرة على ملامسة الآخر، لأنها كتبت بدم صاحبها لا بحبر زائف. وحده الصدق يملك هذه القدرة السحرية على العبور من قلب إلى قلب، ومن تجربة فردية ضيقة إلى أفق إنساني واسع.
الكتابة تشبه الرسم بألوان شخصية لا تتكرر. كل جملة لون، وكل فكرة خط، وكل صمت مساحة بيضاء تحتمل احتمالات لا حصر لها. الكاتب الحقيقي لا يستعير ألوان الآخرين، بل يصنع لوحته الخاصة، حتى لو لم تنل إعجاب أحد. فالإعجاب الخارجي زائل بطبيعته، أما اللوحة التي تخرج من عمق الذات فتبقى جزءًا من هوية المرء، شاهدة على أنه كان هنا ذات يوم، يحاول أن يقول شيئًا يخصه وحده.
قد يظن البعض أن الكتابة وسيلة للتجمّل أمام القراء أو لادعاء الحكمة، لكن التجربة الحقيقية تكشف عكس ذلك. الكتابة تجعل صاحبها يكتشف ضعفه قبل قوته، ارتباكه قبل يقينه، وتردده قبل قراراته الكبرى. إنها مرآة بلا رحمة، لكنها أيضًا مرآة كريمة، لأنها تمنح من يتأملها فرصة إعادة التشكل، وترتيب الفوضى الداخلية بطريقة أكثر إنسانية. من يكتب لن يخرج من النص كما دخل إليه؛ يخرج مختلفًا، محمّلًا بمعرفة جديدة عن ذاته وعن معنى أن يكون حيًا في هذا العالم المليء بالتناقضات.
لهذا، لا يجوز أن تُختزل الكتابة في محاولة كسب إعجاب عابر. إن أعظم ما تمنحه هو تلك اللحظة التي يرى فيها المرء صورته الحقيقية منعكسة على بياض الصفحة. صورة ربما لم يكن يجرؤ على مواجهتها في المرايا التقليدية. صورة تحمل شروخه الصغيرة، جراحه القديمة، وكذلك بقايا الضوء الذي لم ينطفئ فيه رغم كل شيء. في تلك اللحظة يدرك أن الكتابة لم تكن ترفًا، بل ضرورة وجودية، وأن كل نص يكتبه ليس سوى محاولة لإنقاذ نفسه من الغرق في صمت لا يطاق.
إن الكتابة، في جوهرها، ليست سوى سعي دائم للعثور على الذات بين الكلمات. ليست درسًا في البلاغة ولا استعراضًا للنصوص المحفوظة، بل تجربة حميمة، تبدأ بجرأة الاعتراف وتنتهي بحكمة الاكتشاف. ومن يمارسها بصدق، سيكتشف أن النص الحقيقي لا يشبه إلا صاحبه، وأن أعظم جائزة يمكن أن ينالها الكاتب ليست تصفيق الآخرين، بل تلك الطمأنينة العميقة التي تأتيه حين يجد نفسه أخيرًا وجهًا لوجه مع صورته في مرآة الكلمات.
سعدية مفرح – الشرق القطرية
اسماء عثمان
محررة مسؤولة عن تغطية الأحداث الاجتماعية والثقافية، ، تغطي القضايا الاجتماعية والتعليمية مع اهتمام خاص بقضايا الأطفال والشباب.
كانت هذه تفاصيل خبر مرآة الكلمات وسرّ الذات لهذا اليوم نرجوا بأن نكون قد وفقنا بإعطائك التفاصيل والمعلومات الكاملة ولمتابعة جميع أخبارنا يمكنك الإشتراك في نظام التنبيهات او في احد أنظمتنا المختلفة لتزويدك بكل ما هو جديد.
كما تَجْدَرُ الأشاراة بأن الخبر الأصلي قد تم نشرة ومتواجد على كوش نيوز وقد قام فريق التحرير في الخليج 365 بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر من مصدره الاساسي.